:-
140 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [وهو يلقب بزبريق] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب " بسم " فقال له عيسى: وما " بسم "؟ فقال له المعلم: ما أدري ! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته.
< 1-122 >
فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ ب س م ]، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: " بسم "، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي " بسم الله الرحمن الرحيم "، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك.
القول في تأويل الله : اللَّهِ .
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره " الله "، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس-: هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
< 1-123 >
141 - وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: " الله " ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في " فعل ويفعل " أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا.
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في " فعل ويفعل ".
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: " تألَّه فلان " - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للــــهِ دَرُّ الغانِيـــات المُـــدَّهِ
سَــبَّحْنَ واسْــتَرْجَعْنَ مِـن تَـأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ " التألُّه " ، التفعُّل من: " ألَه يأله "، وأن معنى " أله " - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب " فعل يفعل " بغير زيادة.
142 - وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ (وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ) [سورة الأعراف: 127] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
< 1-124 >
143 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك)، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
144 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله " ويذرَكَ وإلاهتك " قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ " أله " عَبد، وأن " الإلاهة " مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟
< 1-125 >
قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
145 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب " الله " فقال له عيسى: " أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة " .
- أن يقال ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل " الله " - من كلام العرب أصله " الإله ".
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [سورة الكهف : 38] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَـرْمِينَنِي بـالطَّرْف, أَيْ أَنـتَ مُذْنبٌ
وتَقْلينَنــي, لكِــنَّ إيــاكِ لا أَقْـلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من " أنا " فالتقت نون " أنا " ونون " لكن " وهي ساكنة ، فأدغمت في نون " أنا " فصارتا نونًا مشددة. فكذلك " الله " أصله " الإله "، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في < 1-126 > الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي .
القول في تأويل قوله : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال أبو جعفر: وأما " الرحمن "، فهو فَعلان، من رَحم، و " الرحيم " فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من " فَعِل يفْعَل " على " فعلان "، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم " رَحمن " من رَحِمَ، لأن " فعِلَ" منه: رَحم يرْحم. وقيل " رحيم "، وإن كانت عَين " فعِل " منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على " فعيل "، وإن كانت عين " فعل " منها مكسورةً أو مفتوحةً، كما قالوا من " علم " عالم وعليم، ومن " قدَر " قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها، لأن البناء من " فَعِل يفْعَل " و " فعَل يفعِل " فاعلٌ. فلو كان " الرحمن والرحيم " خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما " الراحم ".
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجهُ تكرير ذلك، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر ؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية، فلا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ قول القائل: " الرحمن " - عن أبنية الأسماء من " فَعِل يفعَل " - أشدُّ عدولا من قوله " الرّحيم ". ولا خلاف مع ذلك بينهم، أنّ كل اسم كان له أصل في " فَعِلَ يفعَل " - ثم كان عن أصله < 1-127 > من " فَعِل يفعَلُ" أشد عدولا - أنّ الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من " فَعِل يفعَل "، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًّا. فهذا ما في قول القائل " الرحمن "، من زيادة المعنى على قوله " الرحيم " في اللغة.
وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:-
146 - فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العَرْزَمي يقول: " الرحمن الرحيم "، قال: الرحمن بجميع الخلق ، الرّحيم، قال: بالمؤمنين.
147 - حدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة ".
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو " رحمن "، وتسميته باسمه الذي هو " رحيم "، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة.